شهدت الساحة الوطنية خلال الأيام المنصرمة، تحشدات ومهرجانات ومسيرات
جماهيرية، سبقتها حملة إعلامية سياسية، دعائية تحريضية غير مسبوقة، من قبل
قطبيْ العملية السياسية الوطنية، ممثلة بالمؤتمر الشعبي العام "الحزب
الحاكم" وأحزاب اللقاء المشترك "المعارضة" وشاهدنا الآلاف من الجماهير
المشحونة بالغضب تجوب شوارع المدن، وكل منها له شعاراته ومطالبته وحساباته
ومصالحه المختلفة والمتناقضة مع تلك التي يتبناها الطرف الآخر، ومع تلك
التي يحتاجها الوطن ومصالحه العليا في الظرف الراهن.
إذا قرأنا المشهد السياسي الجماهيري الذي صنعته هذه المسيرات، برؤية
سياسية واقعية، ومن منظور المصالح والحسابات الوطنية، سيتجلى أمامنا الكثير
من الحقائق والدروس والنتائج والعبر المتمخضة عنها هذه المسيرات، ويتوجب
على جميع الأحزاب النظر إليها من زاوية معاكسة لتلك التي يقاس من خلالها
مدى نجاح هذا الحزب أو ذاك في حشد الشارع، والمكاسب الحزبية التي حققها
وعلى حساب مصالح الوطن واحتياجاته في الظرف الراهن، ويمكنه أن يجنيها في
المستقبل على حساب الآخر المنافس، فالمصلحة الوطنية تقتضي من الجميع إعادة
قراءة وتحليل واستيعاب كل ملامح هذا المشهد السياسي الجماهيري وإفرازاته
بكل مؤشراته السلبية والايجابية، وبالذات تلك القابلة للتطور والتوسع في
أكثر من اتجاه محتمل، قد تحدد تداعياته مايمكن أن يكون عليه واقع ومستقبل
الوطن على المدى القريب والمنظور، ومن أبرز الحقائق والدروس والنتائج
والعبر مايلي:
أولاً: جاءت هذه المسيرات لتمثل ذروة الحرب السياسية الحزبية،
والإعلامية والدعائية التي شهدتها الساحة الوطنية خلال الأشهر المنصرمة، في
مسعى محموم يحاول فيه كل طرف إظهار مدى شعبيته وقوة حضوره وفعله في
الشارع، وفرض وتنفيذ أجندته السياسية في التغيير والإصلاح وفق قناعاته
ورؤيته ومصالحه وحساباته الحزبية، بالاستناد إلى ما يعتقده كل منهما شرعيته
الجماهيرية، ويحاول تأكيدها عبر تجييش وحشد الشارع الجماهيري، والتدليل
العملي على ما تحظى به أجندته وخياراته وبرامجه السياسية من تأييد ودعم
شعبي.
ثانياً: إذا تمعنا في محتوى ومضامين الشعارات واليافطات التي حملها
المتظاهرون، والهتافات التي كانوا يعيدون ترديدها، والقصائد والخطابات
السياسية التي كانت تُتلى في هذه المسيرات والمهرجانات، سنجدها امتداداً
متطوراً لحالة التناقض والصراع المزمن بين هذه الأحزاب، ومعبرة عن قناعاتها
ومصالحها ومشاريعها الحزبية والسياسية، أكثر منها تعبيراً عن قضايا الوطن،
ومصالح ومطالب واحتياجات الجماهير المشاركة فيها، والأخطر من ذلك أنها
كانت موجهة، لإحداث حالة من الفرز والاستقطاب العدائي للجماهير على أساس
حزبي، وإحداث أكبر قدر من التمزقات في النسيج الوطني الاجتماعي وبناء برزخ
دموي فاصل بين الجماهير الموالية لهذا الطرف وتلك الموالية للطرف الآخر في
خطوة غير محسوبة تمهد لتحويل الوطن إلى واحة مفتوحة للفوضى والصراعات
والحروب بين أبناء الشعب الواحد.
ثالثاً: الجماهير التي شاركت في هذه المسيرات والمهرجانات السياسية
الحزبية، لا تعبر عن حقيقة النفوذ الشعبي والقاعدة الجماهيرية للأحزاب التي
دعت إليها، لأن المعيار الحقيقي لمدى جماهيرية ونفوذ أي حزب وقبوله في
وسطه الاجتماعي هو الانتخابات، وصناديق الاقتراع، فهذه الحشود مثلت خليطاً
غير متجانس في قناعاته وانتماءاته ودوافعه وأهدافه الحقيقية، ويمكن حصر
أبرز مكوناتها العامة في الاتجاهات التالية:
- العناصر الحزبية المسيّسة، ولها قناعاتها وأجندتها وأهدافها المعروفة والمعلنة وهم الأقلية.
- قطاع كبير من المواطنين وبالذات الشباب، وهؤلاء جاءت مشاركتهم، تحت
التأثير الفاعل والقوي للآلية الإعلامية والسياسية والدعائية التي غطت
أحداث تونس ومصر، وهؤلاء في الغالب العام كانت دوافعهم نابعة من قناعات
عاطفية، وميولات ثورية جامحة تميز هذه الفئة الاجتماعية العريضة، ونزعة
سياسية شبابية يحاول أصحابها من خلال هذه المسيرات إثبات وجودهم وتحقيق
الظهور الإعلامي والسياسي، والبحث عن معطى وواقع ثوري فوضوي جديد شبيه بذلك
الذي حصل ويحصل في تونس ومصر.. وقد استندت بعض الأحزاب إلى حالة التفاعل
الشبابي العاطفي مع هذه الأحداث، وتوظيف الآلية الإعلامية العالمية التي
تغطيها، في إحداث أكبر قدر من التحريض السياسي الداخلي، والتأثير المباشر
على قناعات وسلوكيات الشباب وتوجيه فعلهم غير الواعي وغير المسيّس في خدمة
مشاريعها وأجندتها الحزبية.
- مجاميع متباينة في توجهاتها وأجنداتها ومشاريعها السياسية غير
الوطنية، يجمعها تحالف غير مقدس على قاعدة عدائها المشترك للوطن، ومسعاها
المشترك لتصفية حساباتها القديمة والمعاصرة معه، وجاءت في هذه المهرجانات
والمسيرات، لتضفي عليها المزيد من الأبعاد المتطرفة والفوضوية، وتوسيع هوة
الشرخ الاجتماعي والسياسي، والدفع بالأمور نحو مرحلة اللاعودة، وخلق واقع
مهيأ ومواتٍ لفعلها ونشاطها وتنفيذ أجندتها الخاصة.
- جماعات تم شراء مشاركتها وحناجرها وأفعالها، بالدفع المسبق، وتم
حشدها ونقلها والزج بها في وسط الحشود، وغالبيتها من العاطلين عن العمل
والغوغائية، وهؤلاء مأجورون وشقاة لمن يدفع ويمول، وفي الغالب ينفذون ما
يطلب منهم حرفياً، ولا يحملون أية مواقف سياسية محددة، أو قناعات أو مطالب
ومصالح خاصة أو عامة يعبرون عنها.
- القطاع الأوسع من الجماهير المشاركة، جاء خروجه إلى الشارع، تحت
تأثير قلقه المتنامي من طبيعة الأوضاع السائدة وما آلت إليه من انسداد
سياسي، يهدد مصيرهم ومستقبل وطنهم، وأرادوا من خلال هذه المشاركة إيصال
صوتهم القوي إلى كافة النخب السياسية والأحزاب دون استثناء، والتعبير
المباشر - دون وصاية أو وساطة طرف حزبي- عن مصالحهم ومطالبهم واحتياجاتهم
التنموية المتمثلة في حقهم في الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي، وتحسين
مستوى الخدمات الحياتية والمعيشية، ومحاربة الفقر والبطالة، وتوفير فرص عمل
، وبناء دولة المؤسسات والقانون، والأهم من ذلك هو حرصهم ودعوتهم للحفاظ
على ما حققته وصنعته نضالات الشعب من انتصارات وانجازات ومكاسب وطنية
وصيانتها من الخراب والدمار والارتداد.
نقلا عن صحيفة الرياض